"تورّط مسؤولين كبار في قضايا فساد في ميناء
الجزائر".. "ضبط رجال جمارك مرتشين في مطار العاصمة".. "تبخّر مئات
الملايير في صفقات غير مشروعة في شركة السكة الحديدية في قسنطينة وعنابة"..
للأسف
الفساد ظهر في البر والبحر والجو، وصار مثل الوباء الذي أصاب كل الفئات من
رؤساء بلديات وأطباء وأئمة ومديري تربية وبطالين وفنانين ورياضيين وساسة..
وتبقى مشكلتنا أننا شخّصنا الداء وعجزنا عن تسمية الدواء، ونخشى عندما
نسمّي الدواء تكون الحالة قد بلغت مرحلة الموت الكلينيكي الميؤوس من شفائه!
وإذا
كان المواطن الجزائري البسيط ما عادت تصدمه الأخبار التي تغرس في قلبه مثل
السهام عن قضايا الفساد، بل أحيانا يرفض حتى قراءتها في الصحف الوطنية بعد
أن تكسرت النصال على النصال، وصار جسده مخدرا من كثرة وتنوع مثل هاته
الأخبار، إلا أن مجرد كشف القليل منها قد يراه آخرون أحسن من الصمت
الجنائزي الذي ظل يخيّم على الذين لم يحلبوا البقرة وإنما ذبحوها وأكلوا
لحمها.
هل
يكفي سيف الحجاج لهاته الرؤوس التي أينعت وحان قطافها منذ سنين طويلة؟ وما
هي الرؤوس التي أينعت؟ هل هي التي تورطت في هذا الفساد، أم الصامتة عن
الفساد إما تواطؤا مع الفاعلين وتلك مصيبة كبرى أو بلاهة وجهل وتلك مصيبة
أكبر؟ أم تلك التي عيّنت هؤلاء المصّاصين لدماء الشعب.
كلنا
نعلم أننا نعيش في بلد قارة أشبه بفردوس الأرض، تعطينا السماء من غيثها
والأرض من خيراتها والبحر الممتد على أطول ساحل من مرجانه وحيتانه، ومع
ذلك نعيث في البر والبحر والجو فسادا حتى صار ثراؤنا هو شقاءنا، فكلما
ارتفع سعر النفط كلما أينعت رؤوس جديدة، واختفى الحجاج وسيفه في زحمة
الرؤوس اليانعة، ويئس الناس من موعد القطاف.. هل الحل في السجن؟ أم في سن
قوانين الوقاية الرادعة؟ أم العودة إلى نقطة الصفر ومحاولة الإنطلاق من
جديد؟ أسئلة تزدحم في مخيلة البسطاء وهم الضحايا الأوائل لمثل هاته
الجرائم، ومع ذلك يجتهدون لحل هاته الألغاز المتشابكة، ويؤسفنا أن بعض
قراء الجرائد صاروا يتسلّون ويتمتعون وهم يقرأون فنون الاختلاس وحجم
الاختلاس ونوعية المختلسين، وكأنهم يشاهدون أفلام "جيمس بوند وهاري بوتر"،
ويؤسفنا أكثر أن أساليب الاختلاس تتطور بسرعة رهيبة وقوانين الردع تمشي
بسرعة السلحفاة، وربما لا تمشي أصلا.. ولن نكشف سرا إذا قلنا أن ما ينشر
في الصحف من قضايا الفساد هو نقطة في بحر، لأن البلد الذي تكاد الخيرات
تغرقه مثل الطوفان مازال بعض أهله يرتدون الشيفون ويأكلون من القمامة
وأحيانا لا يلبسون ولا يأكلون.
الرئيس
اعترف بوجود الفساد، والإعلام كشف رؤوسا تورطت في قضاياه، والقضاء جرّهم
إلى العقاب، والأئمة نصحوا بالعودة إلى جادة الصواب، والناس صاروا يحفظون
الأسماء السوداء ويشيرون إليهم بالبنان، حتى تحقق أكبر إجماع في تاريخ
الجزائر لا اختلاف فيه بأن الفساد قد بلغ الحلقوم، وتحقق للأسف إجماع
آخر.. وهو العجز أو الجبن عن مواجهة هؤلاء المفسدين!؟